هذا الحيوان الزاحف الذي ركز جميع جهوده التطورية، عبر مئات الملايين من السنين، على تطوير هذه اللغة…
وضبط قوانينها بيولوجياً لكي يستمر الحيوان في البقاء. فلكل لون وكل درجة لونية دلالة ومعنى يتيحان للحيوان التصرف مع بيئته:
فالأخضر يعني أن الوضع في بيئتها هادئ ومريح، وكأن هذا اللون يذكرها برتابة حياة الغابة وسكون النبات…
-->
أما الأصفر، ذلك اللون القلق، فيعني أن الحرباء في حالة توتر عصبي لأن هناك مايدعو لذلك في الجوار…
ويعني الأزرق أن الحرباء تغط في نوم عميق أو سبات يذهب بها إلى البعيد عن كل مايثير الإحساس والمشاعر…
لذا نجد الكثير من أنواعها تنطوي على نفسها مثل الحلزون، ليبدأ مع شعور الحرباء بالإغفاءة تغير عميق في خلايا الصبغة الجلدية،
ينتقل تدريجياً من الرمادي إلى الأزرق، فيما يفضل الكثير منها الرقاد على غصن أجرد أزرق بفعل ما يتراكم عليه من طحالب،
لا يختلف لونها عن لون الحرباء الساكنة السابتة وعتمة لون جلدها الأزرق…
لقد أثار هذا التقلب اللوني عند هذا الحيوان الغامض خيال الكثير من الرسامين المولعين بلغة الألوان، ومنهم بيكاسو نفسه وغيره كثيرون،
غير أن أحداً منهم لم يتوصل إلى إدراك حقيقي وشامل لأسرار هذه القدرة الفائقة في استخدام اللون عند الحرباء..
واعتقاد الكثيرون أن الحرباء تعمد إلى تغيير لونها للتواري عن أعين
أعدائها، وإلى جانب صدق هذا الاعتقاد، فإن هناك حقيقة لم تخطر ببال
الكثيرين،
فالحرباء تعتمد على لغة الألوان، كما يستخدم الإنسان لغة الكلمات لقضاء حاجياته…
ولغة الألوان عند الحرباء أداة لحفظ النوع والتزاوج والتخاطب والتكامل
البيئي، وباختصار فإن هذه اللغة تؤمن لها كل حاجاتها طوال حياتها وحتى لحظة
موتها. لقد سبق للشاعر أوفيد والفيلسوف أرسطو أن امتدحا الحرباء، ووجدا
فيها ذلك الكائن القادر على فهم بيئته عضوياً،
غير أن علماء اليوم لايعدون الحرباء ملكة التخفي، بعد أن ثبت لهم من خلال
المراقبة العلمية أن للعديد من الأحياء نفس القدرة، وربما يكون من الصعب
حتى على المواطن الأفريقي الذي يعيش في قلب الغابة اكتشاف وجود الأسد أو
النمر من أول نظرة، كما أن لثعالب القطب وغزلان السهوب والصحارى قدرة هائلة
على التخفي، ولكن الحرباء تمتلك قدرة هائلة تتفوق بها على هذه الحيوانات..
خاصة وأنها تتمتع بخاصية بيولوجية على التعديل الفوري لموجة الضوء المنعكسة
على خلايا جلدها، واعتباراً من أي تغيير يطرأ على مزاجها، وبتوافق تام مع
طائفة من العوامل الخارجية مثل الحرارة وشدة الإضاءة، إضافة إلى عوامل
داخلية، مثل الحالة الصحية والتغيرات الهورمونية.
كل تلك العوامل تجد طريقها إلى التشابك في طوائف مختلفة من خلايا الصبغة
الجلدية التي لم تحقق التطور العالي فحسب، قياساً إلى ما هو موجود منها عند
الإنسان، والأنكى من ذلك، نجدها وقد انقسمت إلى خلايا متخصصة تخصصاً
عالياً جداً. وإذا كان علماء الطبيعة يستطيعون اليوم شرح أسباب حدوث هذه
الظاهرة عند الحرباء، لكنهم يقرون بعجزهم عن معرفة الكيفية التي تتم بها
التغيرات اللونية على سطح جلدها…
ويعتقد عالم البيولوجيا أنطوني هيري من قسم علوم الحياة في جامعة بروكسل
أنه وفريقه لم يتمكنوا حتى الاَن من التوصل إلى معرفة الكيفية التي تصل بها
الإشارات العصبية إلى خلايا الصبغة اللونية، إذ إن هناك خلايا نجمية الشكل
تدعى (كروما تفور) تقع مباشرة تحت سطح بشرة الحرباء، وتحتوي على الصبغة
الملونة للجلد، وهي مقسمة إلى عدة أنواع:.
يختص كل واحد منها بلون محدد، حيث تعمل الصبغة على امتصاص الضوء بشكل
انتخابي، تجعل انعكاس هذا الضوء بدرجات مختلفة، ليعطي بالتالي مختلف
الألوان. ويبدو أن لغة الألوان وإشاراتها أداة ضرورية لتسهيل حياة هذا
الحيوان الزاحف، حيث يمكن لخلية صبغية أن تنتج نقطة غامقة في محيط لون
فاتح، مايجعل من لون الجلد غير واضح المعالم.,.
الأمر الذي يساعد الحيوان على التملص من أعدائه، أو أن يحدث العكس ، فتبدو الحرباء لامعة لاجتذاب الجنس الاَخر بغرض التزاوج..
وبناء على هذه الاستنتاجات فإن الحرباء توظف معملاً هائل التعقيد يعنى بخلط
الألوان لأغراض محددة، ويقع هذا المعمل على صفحة جلد الحرباء، وتشترك فيه
مليارات الخلايا،
فإذا ما انخفضت حرارة الجو، فإن الخلايا العصبية الحرارية تتولى إرسال
إشاراتها لكي تعدل الخلايا الصبغية من اللون الفاتح، حفاظاً على حرارة
الجسم من التسرب،
وبما يسمح للون الغامق امتصاص أشعة الشمس ، حتى إذا ماتعادلت حرارة جسم
الحرباء مع وسطها البيئي، نجدها وقد تسللت ببطء على جذع أو غصن شجرة،
واقتربت من فريستها من الحشرات لتراقبها بعينين ثاقبتين مستقلتين الواحدة
عن الأخرى،
الحرباء ولغة الألوان،